هل نسيج الكون مُتقطع أم لانهائي الاتصال؟

Pixlated spacetime

خلال منتصف القرن العشرين، توصل الفيزيائي الألماني هايزنبيرغ عبر تطبيقه لرياضيات المصفوفة Matrix إلى فرضية ضمن ميكانيكا الكم تنص على أن نسيج الكون متقطع (أي يتكون من قيم محددة قابلة للعد)، ولكن حينها عارض آينشتاين وعدد من العلماء هذه الفرضية،  وكانت لديهم فرضية مقابلة تنص على أن نسيج الكون متصل، بمعنى آخر، لو أخذت أي نقطتين على هذا النسيج فان المسافة بينهما ستكون لانهائية الاتصال، أي بإمكانك تقسيمها لعدد لانهائي من القيم.
على الرغم من أن هذا الجدل لم يصل إلى نتيجة حاسمة، ومن الصعب جدا اختبار صحة الفرضيتين عملياً، إلا أن علماء الفيزياء والكونيات لازالوا يبحثون في هذا التساؤل، حيث تشرف وكالة الفضاء الأوروبية ESA على أحد أضخم المشاريع التي تحاول سبر أغوار هذا التساؤل والذي سنتطرق إليه في نهاية هذا المقال، ولكن قبلها علينا أن نعرف أكثر عن “نسيج الكون” والذي نصفه عادة بـ “الفضاء”؟

النظرية النسبية والفضاء المتصل

“ما هو الفضاء” قد يبدو هذا التساؤل للوهلة اعتباطيا، فالفضاء هو فقط ذلك المكان الذي توجد فيه جميع الأشياء، صحيح؟ ليس تماماً، فالفضاء يحمل في طياته تفاصيل أكثر من كونه مسرحاً توجد فيه الأشياء، تخيلوا معي لو توقفنا للحظة وقمنا بنفي جميع الأشياء من حولنا إلى العدم، المباني، والسيارات، والبشر، ماذا لو قمنا بنفي الأرض نفسها وكل الكواكب والنجوم، كل شيء حرفياً من أصغر ذرة الى أكبر مجرة. ما الذي سيتبقى لدينا؟ لا شيء، صحيح؟

لو سألنا هذا السؤال لـ نيوتن لكانت إجابته “نعم” فالفضاء بالنسبة لنيوتن عبارة عن ذلك المسرح المطلق والثابت الذي تحصل فيه جميع الأحداث، ولكن بالنسبة لآينشتاين (وهنا تكمن عبقريته الحقيقية) لم يعبر هذه الفكرة بأريحية كما قد يفعل معظمنا، واكتشف أن الفضاء ذاته أكثر من مجرد مسرح، اكتشف أن الفضاء في الواقع مُمَثّل، ويلعب دوراً رئيسياً في الدراما الكونية!  أدرك آينشتاين أن الفضاء عبارة عن “نسيج” متصل سُميَ بنسيج “الزمكان” للدلالة على ترابط المكان والزمان، وتأثرهما بما تفعله الأجسام على هذا النسيج، فالجاذبية على سبيل المثال، ماهي إلا انحناء تسببه الأجسام في هذا النسيج. أطلق آينشتاين على نظريته التي تصف الفضاء على أنه نسيج زمكاني متصل يؤثر ويتأثر بالأجسام بـ “النظرية العامة للنسبية”، وهي تعد احدى النظريات الرئيسية للفيزياء الحديثة ومن أكثر النظريات العلمية اتساقاً على الإطلاق!

 

النظرية الكمومية والفضاء المتقطع

في نفس العصر الذي ظهر فيه مفهوم النسبية، وانطلاقاً من الفكرة التي أتى بها ماكس بلانك وألبرت أينشتاين سنة 1905 حول اشعاع الجسم الأسود، وحقيقة أن الضوء عبارة عن حزم متقطعة من الطاقة تعرف بالفوتونات، انبثقت للعالم نظرية رئيسية ثانية للفيزياء الحديثة وهي النظرية الكمومية والتي تعرف أيضا باسم ميكانيكا الكم. تصف ميكانيكا الكم العناصر البالغة الصغر في الكون كالإلكترونات والفوتونات، وتصف تفاعلاتها بدقة، وهي تستند -كما يوحي اسمها- على فكرة أن الطاقة والزخم وغير ذلك من خواص المادة تأتي في “كمّات quanta ” أي أن جميعها يأتي على هيئة حزم متقطعة.

أحد أهم الأسئلة التي مهدت لهذه النظرية هو سؤال “ما هو أقصر طول؟” بكلمات أخرى، مثلما سرعة الضوء هي حد السرعة في الكون، ما هو أقصر طول من الممكن الوصول إليه في الكون؟

الإجابة هي (طول بلانك) والذي يبلغ

(0.000,000,000,000,000,000,000,000,000,000,000,016 متر) أو 1.616229×10^(−35) متر

لا داعي للقلق ان لم تتمكن من قراءة هذا العدد، فمن الصعب توضيح مدى صغر هذا الطول لأن أي شيء صغير يخطر ببالك سيكون أطول منه بكثير جدا (ذرة الهيدروجين نفسها لها قطر يفوق طول بلانك بـ 10 تريليون تريليون مرة!).

اذن طبقا لهذه الحقيقة التي تقول أنه لا يوجد أي طول أقصر من “طول بلانك” فهذا يعني أن هنالك حداً أدنى للطول في الكون، وبالتالي فانه بشكل يشابه البكسلات في الصورة التي على شاشة هاتفك والتي تبدو متصلة وسلسة عن بعد، ولكن عند تقريبها بشكل كافي سنجدها تتكون من وحدات متقطعة تعرف بالبيكسلز Pixels، الكون كذلك ربما بالفعل يكون متقطعا Pixelated أي يتكون من وحدات متقطعة فائقة الصغر، وهذا بالضبط ما اقترحه أحد مؤسسي ميكانيكا الكم الفيزيائي فيرنر هايزنبيرغ، إذ وصف حركة الجسيمات الدون ذرية على أنها تحدث في شكل قفزات بدلاً من التدفقات التدريجية المستمرة من مكان إلى آخر، وهو ما فيه إشارة إلى أن الفضاء متقطع وليس لانهائي الاتصال. أيد بعض العلماء هذه الفرضية وعارضها البعض الآخر، وإلى اليوم لايزال هذا الجدل قائما، حتى يتم إثبات أي من هاتين الفرضيتين يمثل طبيعة الحقيقة.

 

مشروع GrailQuest والسعي نحو معرفة ماهية الحقيقة

الآن، بعد أن كوّنا تصوراً جيدا عن فرضيتي الفضاء المتصل والفضاء المتقطع، سنتحدث عن أحدث وأضخم مشروع يتم تدشينه الان من قبل وكالة الفضاء الأوروبية للفصل في هذه القضية، وهو مشروع GrailQuest* . يستند هذا المشروع على الفكرة الأساسية الآتية: ” إذا كان نسيج الكون متقطعًا بالفعل، فلن تكون سرعة الضوء ثابتة تمامًا خلاله، بل انها ستتغير قليلًا اعتمادًا على طاقة الضوء، حيث أن الضوء ذو الطاقة الأعلى (مثل أشعة غاما) يكون له طول موجي أقصر، ولهذا عندما يصبح طول الموجة قصيرًا كفايةً، يمكن حينها أن يتأثر بتقطع النسيج الكوني.”

يهدف العاملون على هذا المشروع إلى اختبار هذه الفكرة عبر مراقبة دفقات أشعة غاما في الفضاء بواسطة أسطول من الأقمار الصناعية المتطورة والتي سيتم إطلاق جزء منها لاحقا مع نهاية سنة 2021، مع أن المشروع يعتبر طويل الأمد والنتائج الحاسمة يُتوقع أن نحصل عليها ما بين عامي 2035 و2050.

إذا تمكنا من إيجاد الدليل على أن نسيج الكون متقطع أو متصل، فلن يكون ذلك بدايةً لإعادة صياغة معرفتنا للواقع فحسب، بل سيفتح الباب لثورة في عالم الفيزياء، وربما تليها ثورة في عالم التنقل عبر الفضاء وتقنياته. وبينما نحن ننتظر النتائج حول هذا التساؤل، فلنبحث أكثر في خفايا الكون ونتفكر لو كانت هذه اللحظة الراهنة بذاتها في الزمان، متقطعة أم متصلة!

_______________

مختبر أشعة غاما العالمي لعلم الفلك لاستكشاف نسيج الزمكان كميًا *GrailQuest

(Gamma Ray Astronomy International Laboratory for QUantum Exploration of Space-Time)

 

كتابة: أمجد خرواط

“أُنتج هذا التقرير من خلال ورشة عمل عن الصحافة العلمية وفي إطار مشروع “الصحافة والعلوم”، وهو مشروع لمعهد جوته، بدعم من وزارة الخارجية الألمانية.”

 

 المصادر:
مصدر1
مصدر2
مصدر3
مصدر4

 

 

Facebook
Twitter
LinkedIn