النجوم الغـامضة “الثقوب السوداء” Black holes

black-holes

قصة غامضة بدأها الفيزيائي الـبريطاني جون ميتشـل لأول مرة بـعد تساؤلاته عن حدود سُـرعة الضوء وذلك بعـدَ ملاحـظات رومر عـام -1676-عندمَا قام بقياس المدة الفاصلة بين خسوفين متتاليين لأحد أقمار المشتري “ايوا” – مُقـارنة بتحرك الأرض إبتعاداً عن المُشتري، فلاحظ مٰفـارقة ضوئية بين القمرين ولذلك استنتج أن للضوء سرعة محددة، فقديما تصوّر الفلكـي الشهير غاليـليو أنّ الضوء يجـري بِسرعة لا نِهائِية وينتَقل آنيـاً من المصدر إلى الراصد، ولكن عقب مُلاحضات رومر وبعد مُحاولات عديـدة لقياس هـذه السرعة، توصل الفيزيائِي الأمريكـي المتحصل على جائزة نوبل في الفيزياء ألبـرت إبراهام مـايكلسـون عام 1926م إلى قيمة السرعة التِي يقطعها الضوء في الثانية والتـي قدرهـا بـ 300,000,000 متر/ثانية.

تساءل ميتشيل عن سبب حُدُود سرعة الضوء وربط سؤاله بالجاذبية و تخيل مناطقا ذات جاذبية هـائلة، لايستطيع شيء الإفلات مِنها، حتـى سرعة الـضوء الهـائلة تلك، هذه المنـاطق لم تلقى رواجًا لأن النظـرية الموجية للضـوء كانـت سائدة في ذلك الوقت، التي إفترض فيها العالم الهولندي هايجنز عـام 1678- أن الضوء عبارة عن موجات مثل موجات البحـر والصوتْ، حصدت تلك النظرية رواجًا لأنها مكّنت العلماء من تفسير ظاهرة نمط التداخل-Interference- وهي خطوط ساطعة وأخرى مظلمة حصل عليها العلماء من التجارب الضوئية التي تشبه أنماط التداخل المـوجودة في الصوت. بما أن الضـوء يمتلك هـذه السـرعة الهائل ويتمـثل في موجات، فـكيف لمنطقة جذوبية أن تجذبه، هـكذا كان الرد علـى ميتشيل ولكـن بحسب جاذبية نيوتن، يُمكننـا الابتعاد عن مجال جاذبية أي كتلة عن طـريق سرعة الإفلات-Escape velocity- التي تعتمـد على كتلة وقطر الجسم الـذي تحاول الإفلات منه، فـيمكننا مثلاً الإفلات مِن الأرض إذا حلقنا بسرعة إفلات تبلغ 12 كيلومتر/ ثانية، وإذا أردنا الإفلات من جاذبية الشمس فيجب أن نتسارع بـ617 كم/ث، وكما تخيل ميتشل فإن لهـذه المناطق جاذبية غير محدود وحتى لو تسارعت بسرعة الضوء فلن تستطيع الإفـلات منها ولـهذا سمّاها ميتشيل بالنجوم المُظلمة.

إذاً هـل مايقوله ميتشل محض هـراء عن هـذه النجوم الغامضة؟

في العـام 1905، قام ألبرت اينشتاين بشكل تدريجي بتطوير المفهوم الحديث للفوتون لتفسير الملاحظات التجريبية غير المطابقة لنموذج موجية الضوء التقليدية، حيث علل نموذج الفوتون على وجه الخصوص اعتماد طاقة الضوء على تردده، وجاء هذا الاكتشاف عندما علل اينشتين لغز صديقه ماكس بلانك المتعلق بإشعَـاع الجسم الاسود. وفي هذا النموذج شعاع الضوء هو المسار الذي يسلكه الفوتون، فمثلاً عندما يرسل المصباح شعاعًا من الضوء خلال غرفة مظلمة فإن شعاع الضوء يتألف من عدد كبير من الفوتونات، وكل واحد منها يسير في خط مستقيم، فهل يمكننا وصف الضوء كموجة أو كجسيم؟
لهذا السؤال أثبتت عدة تجارب ازدواجية الضوء وأفضل مثال لتمثيل هذه الظاهرة هي التجـارب المُثبتة، ففي ظاهرة التداخل-تجربة شقّي يونغ- يتصرف الضوء كموجة وفي الظاهرة الكهروضوئية يتصرف كجسيم مادي فوتون، إذاً يُـمكننا القول بـِأن الضوء يتصرف في بعض التجارب كجُسيم وفي بعضها الأخر كـموجة. ومن هُنا يأتي اينشتاين بعد حوالي قرنين مـِن مشروع “ميتشل،” بالنظرية النسبية-theory of relativity- التي تتنبأ بـِوجود تلك النجوم الغامضة “الثقوب السوداء” جاءت النسبية دامجة بين الزمان والمكان”space-time” الأبعاد الثلاثة التي تتمثل في “الطول والعرض والأرتفاع” بالأضافة الى البعد الرابع وهو الزمن. تنبأت النسبية بأنّ الطـاقة تُحدث إضطراباً في “الزمكان” وبما أن الطاقة تساوي الكتلة في معادلته الشهيرة E=mc2 -الطاقة تساوي الكتلة ضرب مُربع سرعة الضوء- وهذا يعني أنّ الجسم إذا تحـرك بسرعة الضوء فإنه يكتسب طاقة هائلة وبذلك يكتسب كُتلة كبيرة جدا.ً
وبما أن جسماً كبيرًا كالشمس يحتـوي طاقة كبيرة تستطيع أن تُحدث اضطراباً كبيرًا كافي بأن يُحني الزمكـان، وهذا الإنحناء الزمكـاني كافي بأن يحدث مجال جاذبية يجذب الأرض وباقي الكواكب وهذا مُشابه لوضع كرة قدم في مُنتصف قطعة قماش فتُحني الكرة قطعة القُماش وإذا وضعت بعد ذلك كرة تنس صَغيرة فستسقط بسبب الانحناء الذي سببته كرة القدم، وبِما أنّ للثُقب الأسود كتلة ذات كثافة كبيرة وطاقة هائلة، فإنه يستطيع التسبب بإنحناء هائل جدًا إلى أن يَثقب بُنية الزمكان، هـذا الأنحناء، مثل الثقب تماما كما وصفه لأول مرة الفيزيائي جون ويلر، وبما أنه لا يوجد شيء أسرع من الضوء فلا شيء يستطيع الافلات من ذلك الانحناء.

ماذا يحدث للضوء بعد أن يُجذب للثقب الأسود؟

يتكون الثقب الأسود من أفق الحدث- event horizon -الذي يتجمع الضوء عنده، وبمـا أن الضوء لا يستطيع الافلات منه فإنه سيستمر في الدوران على أطرافه إلى الأبد على شكل إشعاعات في مسارات مُتباعدة، وإذا استطاع أي شيء الإفلات من هذه المسارات فسيسقط إلى داخل الثقب الأسود، وتزداد مساحة أفق الحدث كُلما سقط فيه مادة أو إشعاع، وكلما زادت مساحة أفق الحدث زادت كمية الطاقة التي يحتويها. ويجب أن يصحب هـذه الزيادة زيادة في الحرارة؛ وهذا لإحداث توزان حراري حسب القانون الثاني للديناميكا الحرارية الذي ينص على أن أي تغير في نظام فيزيائي تلقائياً يجب ان يصحب إزدياد في مقدار أنتروبيته-Entropy، أي يجب حدوث زيادة في التوازن حتى يصل إلى حالة توزيع متسـَاو في جميع اجزائه و وجود الحرارة يعني وجود إشعاع يُبعث من الثقب الأسود ولكن الثقوب السوداء بحكم أنها لا يمكن لشيء الافلات منها، ولهذا فمن المُستحيل أن تبعث شيئا. ولكن عندما أجرى العالم البريطاني ستيفن هوكينغ حساباته عام- 1974 ظهرت له نتيجة أنّ الثقوب السوداء تبُث إشعاعات على هيئة جُسيمات ذرية!
تمكّن هوكينغ من استخدام كُل من الثلاث النظريات المُختلفة النظرية النسبية وميكانيكا الكم والديناميكا الحرارية لإثبات أنّ الثقوب السوداء تُطلق جسيمات ذرية وهذا يُنتج إشعاعاً يُسببْ تقلص كتلة الثقب الاسود مع الوقت و سمي هذا الاشعاع “باشعاع هوكينغ” -hawking radiation- وبالنـسبة لشدة إشعاعه نستطيع تقدير مدة عمره مِن قدرة إشعاعه وبهذا قدر هوكينغ للثقـب الأسـود عمراً محدداً بـ 1 دِيشليار سنة – “66 صِـفر يمين العدد ،*عمر الكون 14 صفر يمين العدد 1”- وتتناقص المدة عندما تقـل مساحته وكتلته، وكلما صغُرت كتلة الثقب الأسود إزدادت درجـة الحرارة وكلما زادت درجة الحرارة زادت معها معدل بث الإشعاع فيتسـَارع نُقصان الكتلة أكثر فأكثر ولكن لا أحد يعلم ماذا قـد يحدث للثقب الأسود حقاً إذا تناقصت كتلته أكثر فأكثر وأنكمشت إلى حد كبير، ويمكننا التأكد من ما سيحدث بعد 1 ديشليار سنة أي بعد تبخر أول نجم مُـظلم تماماً.

كيف تتكون الثقوب السوداء حقًا؟

يبدأ الثقب الأسود حياته كنجم عادي تكوّن من سحـابة مِن الهيدورجين والغُبار وقليلاً من الغازات الأخرى المُتجمعة معـاً بفعل الجاذبية وقوة الضغط الناتجة عن التكاثف والتكدس، وبَـعدهـا يبدأ النجم بإطلاق طاقة نوويّة نَاتجة عن إنشطار ذرات الهيدروجين، وتستمر تلك العملية إلى أن ينفذ وقود النجم مِنَ الهيدروجين فيبدأ النجم بإشطار العنَاصر الأثقل مِنَ الهيدرُوجين وبِما أن تلـك العناصر ثقيلة إلى حد ما فـإنه لنْ يستطيع تحمل هذ الضغط، وهُنا تبدأ عملية إختيار المصِير.
النجم يختار مصيره عن طريق حد “تشاندراسيخار” وهو حد إكتشفه العالِم “سامبراهمانين تشاندراسيخار” -Subrahmanyan Chandrasekhar- بناء عن الكتل ومساحتها، ويقدر هذا الحد بما يقارب “1.4 كتلة شمسية” فإذا لم يتجَاوز النجم هـذا الحد فـسَيتحول إلى إنفجار لمُستعر عظيم-Supernova-، واذا تجَاوزه فأنه سيتحول إلى نجم نيُـوتروني أو ثقب أسود وعلى هذا فالنجم الذى تتراوح كتلته بين 4 إلى اثنين أو ثلاثة أضعاف كتلة الشمس يتحول إلى نجم نيوتروني وإذا زادت كتلة النجم عن ثلاثة أضعاف كتلة الشمس فيتحول إلى ثقب أسود، وهذا يعني إذا كانت كُتلة النجم كبيرة فإنه سيكون ذات كثافة عالية وهذه الكثافة العالية كافية لتدمج الإلكترونات والبروتونات لتُنتج نيوترونات ليتكون نجم نيوتروني يستطيع لحمل هَذا الضغط، أمَـا إذا كانتْ الكثافة أعلى مِن هذا فحتى النيُوترونات لا تستطيع تحمل هـذا الضغط فينهار على نفسه ويتحول إلى ثقب أسود، فيصبح ثقب أسود متوسط الكثافة، إذا كان النجم أكثر كثافة بقليل من حد “تشاندراسيخار”، أما إذا كانت كثافة هـذا النجم أكبر بملايين المرّات من هـذا الحد فسيتحول إلى ثقب أسود هائل الكثافة -Supermassive black hole- تماماً كـالذي يوجد في مركز مَجرتُنا والذي تتراوح كتلته بيّن مئات آلاف وملايين الكتل الشمسية.

يسمّى مركز الثقب الأسود “مفردة-Singularity” وهي النقطة التي تتجمّع فيها كتلة الثقب الأسود تحت تأثير جاذبيته، أما حدود هذا الثقب فتسمى “أفق الحدث-Event Horizon”، عند وصول أي جسم لهذا الأفق يبتلعه الثقب الأسود، وعند هذا الأفق يتوقف الزمكان، ولا يمكن لشيء الخروج منه، وأي جسم يصل لحدود هـذا الأفق يتم ابتلاعه أيّ أن الثقوب السوداء لاتبتلع الأشياء البعيدة عنها، فقط تلك التي تقع في داخل حدود الفوهة أي يُمكن لأرضنا الدوران حول ثقب أسود تماماً مثل دورانها حول الشمس. العامل الرئيسي لكي تتحول النجوم إلى ثقب أسود هو أنّه عليها ضغط كتلتها الهـائلة إلى مساحة صغيرة جداً، ويحدث هـذا عندما تنضغط الإلكترونات والبروتونات لـتكون النيترونات عندما ينفذ وقودها، هـذا العامل ينطبق على جميع أنـواع الطاقة، فمثلا يُمكننا تحويل الأرض إلى ثقب أسود إن استطعنا سحقها لتُصبح بحجم حبة بازلياء صغيرة.

يقدر عدد الثقوب السوداء التي فـي مجرتنُا فقط بـ 100 مليون ثقب أسود، لكن بالرغم من عددها الهائل ألا أنّ Cygnus X-1 هو أقرب الأجسام التي يُعتقد أنها ثقب أسود. فبالاعتماد على مراقبات الأشعة اكس القوية، يقع هذا الجسم على بعد حوالي 6000 سنة ضوئية، ولكي تعرف مدى بُعد هـذه المسـافة تخيل أنّ شمسنا التي تبُعد عنّا 149,600,000 كيلومتر، هـذه السافة الهـائلة تقدر بـ ثمان دقائق ضوئية فقط، ولكن منْ يدري ربما تتحول إحدى هذه النجوم الجميلة القريبة منّا إلى إحدى هـذه الثقوب.

إعداد: Huissen Alkrimi

Facebook
Twitter
LinkedIn